على عيد يكتب :
صافرة القطار الأخيرة
استجمع قواه الحائرة، ولملم أنفاسه المتقطعة، ومضى يرتقى درجات السلم.. متكئا على عجزه.. غارقا فى ماضيه.. سابحا فى فضاء حاضره.. تتصاعد أناته الخافتة.. لقد تقدم به العمر، واتخذت العلل منه مرتعا خصبا تمرح فيه.. تنزوى الذكريات ويحل محلها الألم.. يبطئ من خطواته.. تتسارع أنفاسه اللاهثة.. يختنق صدره بحثا عن نسمة يحتويها.
..«.. فكرة حمقاء حقا أن يرتقى السلم كى يصعد لشقته فى الدور الرابع..».. «لماذا لم تستقل المصعد؟!!».. هكذا حدثته نفسه فى سخط بالغ، واستنكر حديثها بشدة.
«ما زلت شابا».. هكذا خاطبها فى عناد محتجا.. يبدو أنها قد خرفت وأصيبت بالهذيان.. الذكريات تنساب فى رأسه متتالية.. «صحيح أن السحب البيضاء غزت سماء رأسه السوداء، وقطار العمر قد غادر محطته الستي».. لكنه ما زال شابا.. «رفيقة العمر طويت صفحتها الأخيرة والأبناء أضحوا أشجارا يانعة الثمار».. بعزم يتخطى درجتين..«يفر من وحدته إلى مقهاه المفضل، يفتش عن رفاقه القدامى الذين تساقطوا كأوراق الخريف».. برشاقة يتفادى تلك الدرجة المتآكلة.. الصدأ والتراب يعلوان أركان حياته.. يتوقف لينظف عدستى نظارته.. ما حاجته للنظارة!!.. مازال يبصر جيدا.. يطبق ذراعى النظارة ويضعها فى جيبه.
مع ثورته الداخلية المتصاعدة.. يبدأ فى مطاردة تلك الهواجس السلبية، وينجح فى أن يطردها من رأسه.. يأنس إلى لحن شهير من ألحان الستينيات.. يتشبث به مترنما باحثا عن سلواه.. تصفو مشاعره قليلا.. الهدوء يعود إليه ثانية.
الحماس يتلاعب به مانحا إياه قوة زائفة.. يقترب من الطابق الثالث.. تلمع عيناه ببريق الأمل.. بضع سلالم أخرى ويصل إلى هدفه.. سفينة العمر تلقى بمرساتها على شاطئ الشباب.. تستقر قدماه فى الطابق الثالث.. يستند إلى الجدار فى نشوة ظافرة.. يرمق السلالم المتبقية فى تحفز.. على يساره استقر المصعد ساكنا فاردا ذراعيه فى إغراء.. لوهلة كاد يلقى بنفسه فى أحضانه.. لكن جذوة التحدى ما زالت متأججة بأعماقه، تقف حائلا بينهما.
يشيح بعينيه عن المصعد، ويحمل خطواته المتثاقلة، مقتربا من السلم.. معلنا جولة أخرى من التحدى.. تتناقص الدرجات تحت وقع خطواته المكافحة المتهالكة.. اللون الأسود يسيطر على مرأى الأشياء أمامه.. يخرج شهيقه متحشرجا كصافرة قطار عجوز.. شلال العرق المتساقط منه يغسل درجات السلم المكسوة بطبقة رقيقة من التراب.. يقل وقع خطواته حتى تتلاشى.
باب شقته يلوح لعينيه مستحثا ومناديا.. تعود الحياة تسرى ثانية فى خطواته الواهنة.. لم تبق سوى درجتين.. يتشبث بسور السلم مستميتا.. مستجمعا كل ذرة من قوته المتناقصة.. قابضا على شعاع غارب من شموس العزيمة.. يدفع نفسه دفعة أخيرة فى عناء بالغ.
قدماه المرتجفتان تعانقان أرضية الطابق الرابع.. يزحف حتى يصبح قبالة باب شقته.. طبول النصر تهز أرجاءه المنتشية.. الضباب يحتل الرؤية أمامه.. الدماء ترقص رقصة مجنونة فى عروقه.. تتراخى سيطرته على توازنه المهتز.. رجفة الفرح تكتسح كيانه.. يتهاوى جسده المنهك على الأرض منهكا.
يتخذ من الجدار مسندا يستند عليه.. يلتقط أنفاسه المتلاحقة بصعوبة.. يسعل فى عناء.. ومنديله القماشى يشاركه مهمة صعبة فى إيقاف عرقه الغزير.. غيبوبة عميقة تدنو من رأسه المتثاقلة.. وعيناه الواهنتان ترمقان السلم، الذى ابتلع المجهول معظم درجاته.. بينما تراقصت على شفتيه المرتعشتين ابتسامة رضا.
admin
Website: http://egypt-man.net
Leave a Reply